يتساءل الكثير من المسيحيّين عن فائدة المساعي المبذولة من أجل استعادة الشركة والوحدة بين الكنائس بسبب توقهم الشديد إلى رؤية هذه الوحدة منظورة وتلك الشركة تامّة. ولا ريب في أنّ لبعض المسائل الدقيقة والتي لا تزال عالقة، من مثل التوصّل إلى تحديد تاريخٍ واحدٍ لعيد الفصح، أثرًا كبيرًا على مثل هذا التساؤل، ولا سيّما في منطقتنا الشرقيّة. أضف إلى ذلك الخلط الكبير الحاصل من جرّاء تكاثر الزيجات المختلِطة، في بعض المناسبات الطقسيّة أو أثناء الاحتفال بالأسرار الإلهيّة. وإنّ معرفة المؤمنين السطحيّة لمضمون إيمانهم العميق، وجهلهم لدواعي الاختلاف والتنوّع بين الكنائس والرتب والتقاليد، تحول دون التمييز بين ما هو مشروعٌ ويغني، وما هو مخالفٌ لقواعد الإيمان والشركة. وفي هذه المقالة السريعة، يطيب لي أن أشرح أهمّ ما اكتسبته الكنائس من الحركة المسكونيّة الحديثة التي نشأت في مطلع القرن العشرين، والفوائد الجمّة التي جنتها منها، وأن أتطرّق إلى المشاكل التي لا تزال عالقة قبل أن أشير إلى بعض الجهود التي يمكننا القيام بها في سبيل نشر الروح المسكونيّة الصحيحة بين أبناء الكنائس الشرقيّة المتنوّعة، وتدعيم الحوار المسكونيّ على المستويات المختلفة أمانةً منّا لوصيّة الرب يسوع، وإتمامًا لصلاته عشيّة آلامه لكي نكون بأجمعنا واحدًا ومنغرسين في الوحدة الثالوثيّة.
1ـ ُمكتسبات الحركة المسكونيّة الحديثة
لا بدّ أوّلاً من التشديد على أن المسكونيّة روح بمعنى أنّها صبغة يمتاز بحيازتها بعض الجماعات والأشخاص ويضفونها على علمهم ومبادراتهم وخطاباتهم ومسلكهم الكنسيّ. وهذه الروح المسكونيّة هي بمثابة الهمّ الوحدويّ الذي يجد مصدره وغناه في صلاة الرب يسوع عشيّة آلامه وفي طبيعة الكنيسة نفسها التي نعترف بها في قانون الإيمان النيقاوي بأنّها واحدة. فالوحدة أمرًا من الأمور الأساسيّة في نشوء الكنائس وفي الشركة بينها على صعيد الكنيسة الجامعة أو الشاملة. ومن الضروريّ التذكير بأنّ المسعى الوحدويّ لم يغب يومًا عن حياة الكنائس والجماعات المسيحيّة على تنوّعها، لكنّه في الوقت عينه، لم يحل دون الانقسامات ولم يفضِ إلى رأبها أوالحدّ من نتائجها. وبالعودة إلى التاريخ، يمكننا وإن بشيءٍ من الاختصار، ربط الانقسامات بين الكنائس بأربعة حقباتٍ على النحو التالي: حقبة الجدالات الخريستولوجيّة ولا سيّما في القرن الخامس حيث توزّع المسيحيّون بين ملكيّ مناصر لخلقيدونية ومصريّ وسوريّ وأرمنيّ مناهضٍ لمقرّرات هذا المجمع. أمّا الحقبة الثانية فهي حقبة "التباعد والتغرّب بين الشرق البيزنطيّ والغرب اللاتنيّ" والتي أدّت في القرن الحادي عشر إلى انقطاع الشركة بينهما. والحقبة الثالثة الخاصّة بالكنيسة الغربيّة والتي امتازت بحركة الإصلاح الإنجيليّ وانقسام هذه الكنيسة إلى قسمين. والحقبة الرابعة وهي حقبة الإرساليّات اللاتينيّة والبروتستانتيّة إلى الشرق وتتمثّل بقيام بعض الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة والكنائس الإنجيليّة العربيّة. وكما ذكرت أعلاه، لم تنفع جميع المساعي المبذولة لاستعادة الوحدة المنظورة ولم تبلغ مرماها، بل ساد جوّ من القطيعة بين الكنائس طوال قرون.
جاءت الحركة المسكونيّة الحديثة التي نشأت في مطلع القرن العشرين، لتكسر أطر القطيعة وتعيد الوعي المسكونيّ إلى الواجهة، مذكّرةً بوجوب استمرار المسعى المسكونيّ وتنظيمه في حركةٍ لها أسسها وبنيتها ورجالاتها إلى أن تتم الوحدة المنظورة. وهذه الحركة نشأت بدفعٍ شبابيٍّ مصرٍّ على الشهادة للإنجيل في عالمٍ يتخبّط في مجاهل الظلم والحرب والجهل. ومن ثمّ، بعد اجتماع الإرساليّات الإنجيليّة سنة 1910، انطلقت هذه الحركة ونمت وأفضت إلى تأسيس مجلس الكنائس العالميّ الذي أصبح مرادفًا لهذه الحركة والمجال الأرحب لتحقيقها. وقد أسهمت الحركة المسكونيّة كثيرًا في التقارب بين الكنائس، وفي تقريب وجهات النظر بينها، وفي تحقيق بعض أشكال الوحدة من خلال احترام التنوّع الذي لا يضرّ بالوحدة الأساسيّة أي العقائديّة. وأمّا أهمّ الأحداث المسكونيّة البارزة في القرن العشرين فأختصرها كما يلي :
- 1908 : انطلاق أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس في نيويورك على يد الأب بولس واتسون لأجل عودة الخراف الضالّة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكيّة.
- 1910 : مؤتمر الإرساليّات الإنجيليّة في العالم الذي عُقد في مدينة أدنبرغ والذي يُعتبر الشرارة الأولى لقيام الحركة المسكونيّة الحديثة عبر تيّارين عالميّين : الحياة العمليّة ولجنة إيمان ونظام. وكان التساؤل يدور حول إعطاء الأوليّة للعقيدة أم للشهادة في حيّز الحياة الواقعيّة؟ فالحركة الأولى تبنّت الشهادة على الأرض وأولتها الصدارة، أمّا الثانية، فقد التزمت سبيل الحوار اللاهوتيّ كأساس للوحدة المرتقبة لأنّ الكنيسة ليس مؤسّسة كباقي المؤسّسات بل هي مؤسّسة إلهيّة وإنسانيّة في الوقت عينه. وكلتا الحركتين سعتا إلى تنظيم المؤتمرات واللقاءات العالميّة ممّا أسهم في بدء التقارب بين الكنائس.
1920: إطلاق البطريرك المسكونيّ جرمانوس سترنوبولوس نداءً من أجل تحقيق الشراكة المسيحيّة للتعاون والشهادة المشتركة.
1935: دعوة الأب كوتورييه الفرنسيّ إلى إبراز أهميّة المسكونيّة الروحيّة والصلاة والتوبة، وإلى إعادة صياغة الصلاة من أجل الوحدة (كما لا نزال نتلوها إلى اليوم) وتوجيهها نحو تحقيق إرادة الربّ بالوسائل التي يريدها وكما يريدها هو.
1948: تأسيس مجلس الكنائس العالميّ في أمستردام واتخاذ جنيف مركزًا له. وهذا المجلس جسّد الحركة المسكونيّة وكان حاضنها الأكبر.
1961: اكتمال انضمام الكنائس الأرثوذكسيّة إلى مجلس الكنائس العالميّ.
1962- 1965: المجمع الفاتيكانيّ الثاني والتأكيد على التزام الكنيسة الكاثوليكيّة الثابت بالحركة المسكونيّة واعترافها بما قامت به الكنائس الأخرى على طريق الوحدة.
هذه الجهود المبذولة بين 1910 و1965 أدّت إلى عيش حوار المحبّة في كلّ أبعاده، وهيّأت للحوار اللاهوتيّ الذي انطلق منذ الستيّنات من القرن العشرين ولا يزال يحرز تقدّمًا ملموسًا. وهي خلقت مناخًا مسكونيًّا إيجابيًّا سهّل الحوارات وأثّر على إحلال جوٍّ مسكونيّ على صعيد القاعدة ودفع الحوار المسكونيّ إلى الأمام. أذكر هنا على سبيل المثال، نماذج ثلاثة لحواراتٍ لاهوتيّة كبرى متطوّرة:
- الحوار الكاثوليكي - الأرثوذكسي منذ 1980. وقد حقق الكثير من التقدّم حتى سنة 1993 ثم توقّف. ولكنّه عاد إلى متابعة دراساته منذ 2006 ويتطرّق إلى الأسرار في حياة الكنيسة وإلى الخِدم الكهنوتيّة وإلى دور السلطة.
- الحوار الأرثوذكسي الشرقيّ - الكاثوليكيّ وهو عقد في شباط 2008 آخر دوراته (الحلقة الرابعة) في معرّة صيدنايا بضيافة الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة، وتعرّض لمسألة الشركة والكنيسة بصفتها شركة.
- الحوار اللوثري – الكاثوليكي الذي توصّل سنة 1999 إلى عقد اتّفاق على أن التبرير يتمّ أوّلاً وخصوصًا بالإيمان بالربّ المخلّص والوسيط الوحيد بين الله والإنسان يسوع المسيح.
أمّا في منطقة الشرق الأوسط، فقد تمّ تفعيل الروح المسكونيّة ونشرها بين الرعاة والمؤمنين حتّى أُقرّ سنة 1973 تأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي انضمّت اليه جميع الكنائس في المنطقة بما فيها الكاثوليكيّة. وهو مكان اللقاء والتعارف والتعاون والشهادة بين هذه الكنائس. والحركة المسكونيّة لاقت رواجًا في الشرق لما لها من بعدٍ حياتيّ وأهميّة كبرى في مسيرة كنائسنا. وقد جاء توقيع أوّل اتّفاقٍ راعويّ حول انتماء الأطفال إلى كنائس الآباء، والاحتفال بالمناولة الاحتفاليّة في الرعايا لا في المدارس منعًا للاقتناص والخلافات، والعمل على صياغة تعليم مسيحيّ مسكونيّ للمدارس، لينقل المبادئ المسكونيّة إلى حيّز الواقع والممارسة وعيش الأخوّة الحقّة، وذلك في وثيقة البلمند عام 1993.
الأب كابي ألفرد هاشم
مختصر محاضرة ألقيت في حلب سنة 2008