تسجيل الدخول

تكاد الطائفية في كنيسة المسيح تكون بقدم الكنيسة نفسها، وقد نشأت في الكنيسة الأولى نتيجة تحزب الجماعات و الأفراد لاتجاهات فكرية متنوعة،  أو بسبب انحيازهم إلى نمط من أنماط العبادة استحسنوه وفضلوه على غيره، ثم تطور هذا النمط  التعبدي إلى حزب أو طائفة اكتسبت مع الزمن قوة على الصعيد الاجتماعي والقومي والعقائدي.

إن الانتماء الطائفي في بعض جوانبه يظهر نوعا من التنوع الفكري، وأحيانا أخرى الإبداع، لكن هذه حالات نادرة، وتبقى الطائفية رغم ذلك ظاهرة سلبية قد تتحول إلى آفة ينبع منها الجهل والتعصب. فهي التي تضعنا في إطار شكل واحد لا يجوز الخروج عنه، ومن خرج يُحتقر ويُنبذ. وهي، بشهادة التاريخ، أحد الأسباب الأساسية في تناحر المسيحيين ونبذهم لبعضهم البعض.

وقد اكتظ تاريخ الكنيسة بالخلافات المذهبية الطائفية، ولمّا كان من صعب على أي جماعة أن تأسر المسيح لانتساباتها التاريخية وتجعله حكرا عليها، رهن البعض تلاميذ المسيح وجعلوا منهم امتيازاً حصرياً لطائفتهم. وزادوا عمقا في خلافاتهم، فاختلفوا في مقام الرسل، وفي من منهم أقام الآخر على خدمته، وفي من كان الأقرب إلى بولس، ومن من آباء الكنيسة استحق القداسة ومن لم يستحقها؟ وقس على ذلك.

إذا غالت أية طائفة مسيحية في انتمائها لرسول من الرسل وعظّمته وحملت الناس على تعظيمه، أو حصرت فهم الحقيقة ببعض علماءها وقادتها ومعلميها ممن قسم لهم الله نصيب وافر من الحكمة والموهبة الروحية، فإنها بذلك تعلن جهلها لإعلانات الكتاب المقدس حول النقص البشري وتحصر المعرفة الربانية  في  انجازات أولئك وقدراتهم.

والمشكلة لا تكمن في انتمائنا إلى هذه الطائفة أو تلك، بل أن يُفّرغ هذا الانتماء إيماننا من مضمونه ويحوّل الله من السيد على حياتنا إلى مجرد رمز ميت يتمثل في أحزاب وتكتلات بشرية، إذ ذاك  تحل الطائفة محل الله  وتصبح  هي  موضوع  فخرنا بينما تفقد كلمة الله تأثيرها في قلوبنا. وهنا ينطبق وصف الدكتور كوستي بندلي للطائفية بأنها مظهر من مظاهر الصنمية، والحالة هذه، "تتعبّد لذاتها عوض أن تعبد الله، وتستخدمه تعالى عوض أن تخدمه". [190]

ومن مظاهر الطائفية الخوف من الآخر، والخوف يولد الانغلاق، والانغلاق يولد العداء، والعداء يدين ويخوّن ويكفّر الآخرين وينسب لهم البدعة والضلال. إن الخوف يقودني إلى إزاحة الآخر وإلغائه في سبيل حماية استمراريتي. وهناك الخوف على الرعية ووجودها وكيانها، والخوف على مصالح الطائفة، الذي يغذي روح المنافسة والتسابق إلى النافع والضار.

والطائفية قد تفرغ الكنائس من هدفها الروحي وتحولها إلى مجرد مؤسسات اجتماعية تعمل على تعظيم اسمها وتنافس بعضها البعض في تسلق  السلالم  وتقديم الإنجازات وبسط النفوذ والسيطرة. فتصبح إنجازاتها هي الغاية المنشودة وليس مجد الله وخير الإنسان.

وظنت كل طائفة بأنها الحاملة للإيمان الأقدس دون غيرها، وأن خارجها لا خلاص للإنسان. لذا استلزم من كل طائفة أن ترد الطائفة الأخرى إلى "الحق". من هنا كان منطلق السبق إلى الأولوية في تمثيل كنيسة المسيح أمام الشعب والحكومات. وكم يسطر لنا التاريخ من فساد للطائفية ومواقف خائنة مخزية. هذا يشي بذاك، وهذه الطائفة تحد من توسع الطائفة الأخرى وتستنكر عليها التبشير بالإنجيل. وبحق، أن المسيحيون أعداء أنفسهم، وهم يعملون أكثر من الغير على إضعاف المسيحية وتفكيك ربط الوحدة وإفشال كل المساعي في هذا الاتجاه، ومن العيب أن يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم.

علينا أن نعي جيدا، بأن الحساب أمام كرسي المسيح غير متعلق بالانتماء الطائفي، ولا بالموقف العقائدي، ولا بالتقاليد والطقوس الكنسية، وإنما بموقف كل مسيحي من المسيح وبمقدار حبه لله ولأخيه الإنسان. وإن شئنا أن نسمع مدحه "أيها العبد طوباك"، لنطع أمره "سالم أولاً أخاك".

الحركة المسكونية وكنيسة العرب

ولمّا كان إزاحة الطائفية من الأمور الصعبة، أتت الحركة المسكونية لتخفف من وطأتها، وقد تبنتها المسيحية العربية في العصر الحديث لتفعيل الأنشطة التثقيفية والتنموية والحوارية بين مختلف الطوائف المسيحية.

ثم تطور الفكر المسكوني في القرن العشرين إلى حوارات وتعاون ما بين الطّوائف الإنجيلية والأرثوذكسية والكاثوليكية على المستوى الدولي.

المبدأ العام هو القبول ببعض المعطيات أولها، أن المسيح أسس كنيسة واحدة مقدسة جامعة وهو سيدها، وهي مدعوة إلى مراجعة الذات بصدق وتواضع أمام الله، الذي أرسل ابنه ليجمع أبناء الله المشتتين.

أما الهدف، فهو الانتقال من الطائفية بمفهومها الانغلاقي والإلغائي للآخر، إلى سعي الجماعة للعيش في حضرة الله والتمتع بنهضة روحية مسيحية. والنهضة من الضروريات، التي لن تكون فعالة، بحسب تعبير البعض، إلا في وحدة الصف المسيحي، والوحدة لا تعني تخليات أو تنازلات عقائدية بقدر ما هي البحث عن نقاط تجمع بين الفرق المسيحية على مبدأ "من لا يجمع فهو يفرّق".

إنّ المسيحية في الشرق تعيش واقعاً متشابكاً معقداً من حيث الانتماء القومي، وهذا ما يزيد الوحدة صعوبة. فبعد مضي أكثر من 1400 سنة من العيش ضمن حدود وثقافة العالم العربي، لا تزال كنائس الشرق لا يجمعها انتماء قومي أو ثقافي واحد. والحوار بين الطوائف هو بحد ذاته خطوة إيجابية، لكن المشكلة الكبرى تكمن في تعريف الوحدة المسيحية، ووضع أساس تبنى عليه الوحدة.

انطلاقا من هذا الوضع المتشابك جاءت محاولات عديدة لضم الكنائس تحت تسمية واحدة يحفظ فيها كيانهم وتعطى لهم هوية تميزهم. منها تسمية "كنيسة العرب"، التي اقترحها الفرنسي الأب جان كوربونعلى خلفية أن التسمية تساعد في توضيح بعض الالتباسات وفي الخروج من مآزق تضعنا فيها التسميات الكنيسة السارية في المنطقة، التي تساهم في تغذية الالتباس والغموض كونها لا تعبر بدقة، لا عن هوية الكنيسة ولا عن هوية الشرق. مال البعض لهذه التسمية، بينما رفضها آخرون مع تفضيل البقاء في أطرهم الخاصة.

وفي تمهيد على كتابه "كنيسة العرب"، يقول كوربون:" في كلامنا عن كنيسة العرب، لا نقصد الاشارة الى "الكنيسة العربية" بالمعنى الحصري، او الكنيسة الانطاكية أو الارثوذكسية أو الكاثوليكية او القبطية بالمعنى الضيق المتداول. المقصود هو الكنيسة الحية في هذه المنطقة، تلك التي تتألف من مجمل المسيحيين، والتي تشمل هويتها الكنائس الفردية ومنها تتألف".

خلاصة:

لقد اجتازت كنيسة المسيح في الشرق مراحل تاريخية متنوعة غلبت فيها التحولات السياسية والدينية العميقة وتركت فيها مبلغ الأثر. فكُتب لها أن تعرف بطش العرب وتلمس فساد المماليك وتختبر قسوة الأتراك ووحشية الصليبين وقمع العثمانيين. كانت ككرة تتقاذفها الأيادي في ظل الدولة الإسلامية، وكلما اضطرب أمر هذه الدولة زادت القيود الموضوعة على أبناءها، تارة من منطلق تشريعات مزاجية خاصة، وتارة غيرها على أساس سند إسلامي صريح. فلم ينعم مسيحيي الشرق يوما براحة في أوطانهم الا استثناء، وكانوا غالبا ضحايا الظلم والجهل، والجهل آفة خطيرة ينبع منه الغلو والتعصب والاضطهاد.

اليوم تواجه المسيحية العربية خطر الاقتلاع، وهي تكافح من أجل البقاء في أحواض إقامتها مع التخوف من نهايتين: القبول بمواطنة من الدرجة الثانية، أو الاستئصال. هذا الخوف قاد ويقود إلى هجرة وإخلاء كامل لبعض المناطق المسيحية في الشرق.

 ان حالة المسيحية المشرقية اليوم يضع على مفكرة الكنائس المحلية والحركة المسكونية منها عناصر عدة يجب معالجنها ضمن الايمان بالمسيح الواحد وكنيسته الواحدة.